البيان الثاني لكلية الشريعة في الجامعة الأردنية بمناسبة شهر رمضان الفضيل وفي ضوء مقتضيات مقاومة وباء "فيروس كورونا"

 

​الحمد الله مقدِّر الأقدار، ذي الحكمة البالغة القدير المُتعال، وأفضَل الصَّلاة على نبيّه، إمام المتَّقين الأخيار، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيِّبين الأطهار،

 

أمَّا بعد، فانطلاقا من المحبة الواجبة للمسلمين، والأمانة الملقاة على ورثة الأنبياء والمرسلين، فإنَّنا نحن مدرسي كلية الشريعة نتوجه بهذا الخطاب لأهلنا في الأردن خاصةً، وأبناء أمَّتنا عامةً بالدعاء إلى الله الواحد الأحد أن يفرج الكرب، ويصرف عنَّا وعن العالمين كل وباء وبلاء، وأن يغمرنا بعفوه ويشفِ مرضانا، ويحفظنا، ويتمَّ علينا نعمه، ويبارك لنا في شهر رمضان، شهر الإنابة والغفران، الذي أُنزل فيه القرآن هدى للنَّاس أجمعين، قال تعالى: "شهر رمضان الذي أنزِل فيه القرآنُ هدى للناسِ وبيناتٍ من الهدى والفُرقان، فمَن شهدَ منكُم الشَّهرَ فلْيَصُمْهُ." صدق الله العظيم.


الإخوة الكرام؛ لقد منَّ الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بنعم عظيمة، وفرص جليلة، فضاعف الحسنة بعشر أمثالها، وجعل الصلاة إلى الصلاة كفارة، ورمضان إلى رمضان كفارة، وإخلاص الصيام في رمضان وسيلة لحط الذنوب كلها، قال صلى الله عليه وسلَّم: "من صام رمضان ايماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، ولذلك فإنَّا نذكر المسلمين بضرورة الإفادة من بركة شهر رمضان، فهو خير فرصة تستغل للتوبة النصوح، والإنابة للباري الرحيم، والاستغفار من الذنوب، وإبراء الذمة من حقوق الله وحقوق العباد، والاستزادة من العبادة، وتلاوة القرآن وتدبره والتفكر فيه، وتزكية النَّفس، وتجديد النية، وبلوغ مرتبة التقوى، وهي ملاك الخير والصلاح كله. قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكُم الصِّيامُ كما كُتِبَ على الَّذين مِن قَبلِكُم لَعلَّكم تَتَّقُون". فمن اغتنم هذه الفرصة وأخلص النيَّة لله نال بإذن الله المغفرة، وبلغ مرتبة التقوى، وذلك فوز عظيم. قال تعالى: "ومن يتَّقِ اللهَ يجعل له مَخرجًا ويرزقه من حيثُ لا يَحتسِب". وقال عزَّ القائل: "يا أيها الذين آمنوا إنْ تتَّقوا الله يجعل لكم فُرقاناً". ولا يخفى ما للصيام من دور كبير في تهذيب السلوك، والارتقاء بالنفس، بالتحلي بالأخلاق العالية، والصبر والحلم والأناة، وطيب المعاملة مع النَّاس، قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وقد رغب ديننا بالإيثار، فقال تعالى: "ويُؤثِرون على أنفُسِهم ولو كانَ فِيهم خَصَاصَة"، ودعانا إلى الإنفاق وإعطاء حق الله من الزكاة الواجبة، والتصدق والإحسان نافلة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة فيدارِسُهُ القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المُرْسلة". فحَرِيّ بنا أن نُؤثر إخوتنا، وننفق ممَّا آتانا الله من فضله في السِّر والعلن، لعل الله يرفع عنَّا الكرب ويكرمنا بالفرج، خاصةً في هذه الأزمة التي تزداد الحاجة فيها إلى التعاضد والبذل والعطاء، وإغاثة الملهوف. قال تعالى: "وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يُخْلِفُهُ وهو خيرُ الرَّازقين". وقال علية أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم: "ما نقصَت صدقةٌ من مال، وما زاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلاَّ عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلاَّ رفعهُ الله".


فرمضان وقته ثمين، نهاره صيام، وليله قيام، وكله بركة، وفكر، وذكر، وعبادة. فلا بد من أن نستغل هذه الأوقات الثمينة، ونغتنمها على خير وجه، وفراغنا فيه في هذا العام فرصة نفيسة، ولنا في هذا الابتلاء العارض -إن شاء الله- درس وعبرة لا بد أن تغتنم. قال عليه الصلاة والسلام: "اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".


وفي هذه الظروف الصحيَّة الحرجة، وفي ضوء ما تفرضه علينا، وعلى العالم تداعياتُ وباء "فيروس كورونا"، والوقاية منه، فإنَّه لا يخفى أنَّ دين الإسلام هو دين الإنسانية والرحمة، والتخفيف ورفع الحرج، تقوم أحكامه على اعتبار الأمر الوسط المعتدل، ومراعاة الأولويات، وذلك بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وتغليب دفع المفاسد على جلب المصالح، والمقابلة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وتغليب العامة منهما على الخاصة، وفي ذلك تحقيق لمقاصد الشريعة وروحها السمحة، ومن المعلوم أيضاً أنَّ العبادات في الإسلام بُنِيت على التكليف بالمقدور من الأعمال، وعدم إلزام الإنسان بما لا يطيق منها، أو بما يَشقُّ عليه، أو يعرِّضه للخطورة. قال تعالى: "ولا تُلقوا بأيدِيكُم إلى التَّهْلُكَة". وفي الحديث الشريف؛ قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نَهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتُوا مِنه ما استَطعتُم".


ولهذا كله، فلا ينبغي أن يجد المسلم في نفسه غضاضةً من تعبُّد الله تعالى في هذا الشهر الفضيل في بيته في ضوء ما تقتضيه هذه الظروف الصحية الطارئة. فيجوز أداء جميع الصَّلوات في البيت، ولا مانع شرعاً من عدم إقامتها في المساجد اضطراراً للحاجة، وسداً لذريعة انتشار الوباء، والمخاطرة بصحة المصلين وغيرهم من النَّاس، وحفاظاً على أنفسنا وأُسَرنا وجيراننا وأبناء المجتمع عامة، سواءً أكان ذلك في رمضان أو في غيره، وما دام العذر لا زال قائماً، فإنَّ الرُّخصة تبقى قائمة، للأدلة والأسباب ذاتها. وقد ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذناً يؤذِّن، ثمَّ يقول على إثرِه: "ألا صلُّوا في الرِّحَال"، في الليلة الباردة، أو المَطيرة، في السَّفر"، فإذا كان نبيُّنا عليه الصلاة وسلام قد حكم بعدم حضور صلاة الجماعة في المسجد حفاظاً على المصلين من أذى البرد والمطر، فإنَّ عدم إقامتها فيه خوفاً عليهم من المرض، ومن انتشار الوباء في المجتمع، يكون من باب أولى، ولا ينبغي ظان يعاند أحد في هذا الأمر، فقد نُهينا عن التَّنَطُّع في الدِّين فلنحذر من ذلك. قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الدين يُسر، ولن يُشاد الدِّين أحد إلاَّ غلبه، فسَدِّدُوا وقارِبوا". وقد شرَّع الإسلام الرُّخص وراعى الأحوال، وأخذ بالسياق الظرف الزماني والمكاني في تقرير الأحكام ومايز بين الحالة العامة الطبيعية، وحالة الرُّخصة والاستثناء، فجعل الضرورات سبباً في إباحة المحظورات، وأكرمنا بأن جعل مناط قبول الأعمال بالنيَّات، فمن مكث في بيته وهَمّ في الصلاة في المسجد، وقد حبسه عن ذلك عذر أو مانع، كعذر منع الاجتماعات خوفاً من انتشار العدوى، فإنَّها تُكتب له بإذن الله صلاةً تامةً، كأنَّه أداها في المسجد جماعة، والله يضاعف لمن يشاء، كمن حبسه حابس من مرض أو خطر من إكمال حَجِّة، قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكل امرِئ ما نَوى". وقال أيضاً: "فَمَنْ هَمَّ بحسنَةٍ فَلَم يعمَلهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً".


وممَّا يجدر بالذكر، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقوم الليل ويصلي التراويح منفرداً في بيته، وقد صلَّاها جماعةً في المسجد مرتين فقط، ثم امتنع، ولمَّا سُئل عن ذلك، قال: "خشيت أن تُفرض عليكم". ولهذا فإنَّ صلاة التراويح سنة مؤكدة، يجوز أداؤها بانفراد، كما تجوز في جماعة، ولا يجب أداؤها في المسجد تحديداً كما قد يظن البعض، قال عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه".


وممَّا ينبغي التأكيد عليه، في هذه السَّياق، أنَّ القول في مكافحة الوباء وإجراءاته إنَّما هو للأطباء وأهل الاختصاص من الدولة وأولي الأمر، فمن الواجب تنفيذ قرارتهم، والاسترشاد بتوجيهاتهم، وذلك أخذاً بالأسباب ومراعاةً للاختصاص. أَمَا وقد أجمع الأطباء على خطورة الاجتماعات الكبيرة للنَّاس خاصةً في الأماكن المغلقة، فإنَّه لا يجوز مخالفة حكمهم، وفي ديننا مَندُوحة، وسعة وافرة لتقبُّل الظروف الطارئة والأحوال الجائرة، فهو دين اليُسر ورفع الحرج، قال تعالى: "وما جعلَ عليكُم في الدِّين مِن حَرَج".


وفي الختام؛ فإنَّنا نتضرَّع إلى الله العلي القدير أن يبلغنا رمضان ويعيده علينا وعلى أمَّتنا باليُمن والبركات، وأن يحفظ جلالة ملك البلاد، والقائمين على خدمة وطننا، ورعاية مصالحنا، وحفظ نفوسنا، ويجزيهم عنَّا خير الجزاء، ونسأله جلَّت قدرته أن يفرج عنَّا كل كرب، ويرفع الوباء والبلاء، إنَّه على كل شيء قدير، وهو تعالى القائل: "فإنَّ مع العُسْرِ يُسرًا، إنَّ مع العُسْرِ يُسرًا."


حفظ الله الأردن في ظل الرَّاية الهاشمية، وأبقاه نبراساً للخير والأمن والسلام، وذخراً للإنسانية جمعاء، وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.